1- رواية الأميرة كهرمان إبنة السلطان شرهان*
عاشت الأميرة الصغيرة كهرمان ابنة السلطان شرّهان في قصر مثل الأحلام، تزينه الأشجار والأزهار، وتملؤه الأطيار بأعذب الألحان..
القصر كبير كـبير.. مصنوع من المرمر والياقوت.. كل ما في القصر ثمين.. ستائره.. أبوابه.. بسطه.. سرائره.. كل شيء من أجود ما يمكن أن يكون.
الأميرة كهرمان تعيش في هذا القصر برفقة مربيتها.. الخالة شُكران، ويحيط بالقصر مجموعة من الحراس الأقوياء..
لم تكن كهرمان راضية عن عيشتها، كل هذا الرخاء، النعيم، الثراء.. تشعر أنه سجن.. قيود.. حواجز.. أشياء تحجبها عن الناس.. عن أقرانها البنات.. عن الشعب.
القصر بعيد عن المدينة.. فوق ربوة عالية نائية.. تحيط بها الأسوار، ولا يمكن الوصول إلى القصر إلا بإذن شخصي من السلطان.
عاشت الأميرة في هذا المكان معظم حياتها.. بعيدة عن أمها السلطانة نورهان وأبيها السلطان شرّهان.. ولا تراهما إلا في المناسبات المتباعدة.
أبوها السلطان كان يخاف على ابنته من الشعب.. بسبب ظلمه وبطشه، ويعلم أنهم يكرهونه.. يخشى أن ينتقموا منه بقتل ابنته، كما يخشى أن تنكشف صورته الحقيقية أمامها ، فهي تظنه حاكماً عادلاً.. نزيهاً.. يحب شعبه، وشعبه يحبه.. وهي تشعر أنه طيب القلب، فهو معها لطيف لطيف، لم تظن يوماً أن وجه أبيها الهادئ الوقور قناع رقيق لوجه آخر يعرفه الناس كلهم.. ويخفى عليها لوحدها.
***
كان السلطان يخاف أن تعرف ابنته أسراره.. أن ترى ما يفعله بالشعب من ظلم وجور.. أبعدها عن عاصمة السلطنة، بنى لها قصراً في منطقة نائية معزولة، لا ينقصها شيء ولا تحتاج إلى أحد..
السلطان شرّهان كان مرهوباً عند عامة الشعب، لا يجرؤ شخص على مخالفة أوامره السلطانية.. يأمر فيطاع.. يظلم فيهاب.. من يعصيه يكوى بالحديد والنار..
الشعب يخاف منه ويخشى ظلمه.. وهو ينقسم إلى أربعة أقسام:
قسم: ينتفعون منه.. يعيشون على فُتاته وظلمه للناس، لا يفكرون إلا بما يجنون من مكاسب، يمدحونه ويعظمونه.. هم أكثر الشعب بغضاً له وكراهية، خزائنهم ملأى بعطاياه.. وأيديهم ملطخة بالدم..
وقسم ثانٍ: يأتمرون بأمره.. يعملون في الجيش والسلطة والإدارة.. ينفذ جرائمه بواسطتهم، لا يستطيعون الرفض، يخافون على أنفسهم وأسرهم من بطشه وظلمه، يحاولون أحياناً تخفيف الأحكام عن الناس.. وإذا اكتشف السلطان واحداً منهم سجنه وعذبه دون رحمة..
وقسم ثالث: محايدون تماماً.. يعيشون بعزلة.. يرفضون بصمت وجود السلطان وأفعاله، يفضلون الأعمال البسيطة البعيدة عن سلطة السلطان.. يعملون بالحِرَف والتجارة.. يغمضون أعينهم عما يجري حولهم، يدعون ربهم ليخلصهم مما هم فيه.. لكنهم لا يفعلون أي شيء، أي شيء.. حتى إنهم لا يتكلمون فيما بينهم بأدنى أمر يتعلق بالسلطان وحاشيته.
أما القسم الرابع والأخير؛ فقد كان متمرداً بقوة.. رافضاً بعنف.. لكل ما يقوم به السلطان من أفعال منكرة.. شريرة.. وفي هذا القسم من الناس؛ أدباء وعلماء ومفكرون.. فضلاً عن عامة الشعب، بعضهم دخل المعتقلات، بعضهم عذِّب حتى مات.. منهم من هاجر إلى بلاد بعيدة.. ومنهم من لجأ إلى الوديان والسهول والجبال؛ شكلوا مجموعات سرية تقاوم السلطان وشروره، تلجأ إلى مهاجمة جنوده وقوافله، تستولي على ما في هذه القوافل من سلاح ومعدات وتموين غذائي متنوع.
وهذا القسم الأخير أشد الأقسام إزعاجاً للسلطان، يثير غضبه وحنقه، فيصدر أوامره الصارمة باستخدام كل أساليب البطش والقوة للقضاء عليهم.. ومع ذلك كانت أعدادهم تزداد ولا تنقص.. وإمكاناتهم تقوى ولا تضعف..
***
الأميرة الصغيرة الجميلة كهرمان لم تكن تعرف عن ذلك شيئاً، حياتها تمضي بشكل هادئ رتيب، تقرأ الكتب الكثيرة المتنوعة، تمارس هواياتها المسلية.. ترسم لوحات طبيعية جميلة.. تلعب بألعابها الفريدة التي أحضرها لها السلطان من جميع أنحاء العالم، تشدو مع البلابل والحساسين، تعيش مع الطبيعة الجميلة؛ تزرع الورود والرياحين.. تسقي الأشجار وتقطف الثمار.. تطعم الدجاج والصيصان.. تلعب.. تلهو.. تفرح.. الحياة بالنسبة لها عالم آخر، غير ذلك العالم الذي يعيش فيه الشعب.. عالم مستقل.. لا جراح فيه ولا آلام.. لا جوع فيه ولا مرض..
***
الخالة شُكران مربيتها تعرف كل شيء.. تتألم لما يحدث للشعب، تتجنب قسوة السلطان وظلمه، تعلم أنه ميت القلب، يعامل الناس دون رحمة.. حتى زوجته السلطانة نورهان، لا يعبأ بآلام الناس، يسعى لإرضاء غروره وحبه المجنون للمال والسلطة، يحتقر الناس جميعاً، يظن أنه لو خفف قبضته عن الشعب لانتهى سلطانه واضمحل.
الخالة شُكران تعلم أنه آوى إليه المجرمين واللصوص، أعطاهم مكانة عالية في المجتمع، فبدلاً من أن يرميهم في السجون التي صنعت أصلاً لأمثالهم، سلمهم أكبر مراكز السلطنة، فقاطع الطرق أصبح وزيراً للأمن، وعدو العلم أصبح وزيراً للعلوم وهو لا يعرف كيف يكتب اسمه، ووزير الثقافة لا علاقة له بالثقافة.. وهكذا جعلهم في أماكن لا تليق بهم فعاش أفراد الشعب في دوامة لا يستطيعون الخلاص منها..
***
الخالة شُكران تعرف هذا وأكثر، لكنها تحب الأميرة الصغيرة، فقد ولدت على يديها.. ولا تستطيع أن التخلي عنها، لم توافق يوماً على ما يفعله السلطان لكنها ضعيفة.. لا تجرؤ حتى على النظر في عينيه، كما أنها سعيدة برفقة الأميرة كهرمان، وتخشى أن تكتشف الأميرة في أحد الأيام ظلم أبيها.. فهي طيبة القلب ترفض ظلم الآخرين، حتى الحيوانات الصغيرة تخاف عليها.. فلو علمت أن أباها يقوم بكل ذلك السوء لأصيبت بحسرة شديدة.. وربما سقطت من هول الصدمة.
***
الأميرة كهرمان لم تكن سعيدة بحياتها، رغم كل ما يحيطها من فخامة وثراء، كل هذا لا يعني لها شيئاً، لا تشعر أنها تعيش عيشة سوية، تريد أن تكون مع أسرتها في مكان واحد.. كلما سألت أباها عندما يزورها مع أمها، عن ندرة زياراتهما إليها، عن سبب عزلتها ووحدتها، وترجوه أن يأخذها معه...؛ تسمع جواباً لطيفاً منه، يختلف تماماً عن أسلوبه مع الآخرين.. يقول لها: "هذا المكان فيه كل ما ترغبين فيه، أنا أخشى عليك من المدينة.. فقد تتعرضين للأخطار.. كما أن المدينة مليئة بالعمال والجنود والمصانع والضجيج.. فلماذا نزعجك بكل هذا؟".
***
الأميرة كهرمان قلبها طيب طـيب .. تصدق أباها وتقتنع بسرعة، لكن عندما يعود أبوها وأمها إلى المدينة، تعود هي إلى وحدتها، ويصبح القصر الضخم الرائع سجناً يحوي كل وسائل التسلية والترفيه..
***
في كل ليلة.. تجلس في ضوء القمر.. تتأمل السكون.. تفكر في حياتها.. "هل سأظل في هذه الوحدة طوال حياتي.. لا صديقة، لا زوج، لا ولد..؟".
صارت تحلم بفارس يأتي من بعيد يحملها على حصانه الأبيض، يخطفها من هذا القصر، لتعيش بين الناس؛ حياة طبيعية، ولو في كوخ حقير، تعيش ببساطة.. نعم ببساطة.. ولو أكلت خبزاً جافاً.. وقرصها البرد والجوع..